131

األسطورة ودورها في اإلبداع

Le mythe et son rôle dans la créativité humaine

عمارية حاكم د/

سعيدة(الجزائر)-الدكتور موالي الطاهرجامعة

ملخص المقال بالعربية:

وظف األسطورة يف أبسط تعريف هلا هي جنس أديب عماده اخليال، وأساسه اخلرافة، ومسيت باألسطورة أل�ا ت

أشياء ومظاهر خارقة للعادة، وخارجة عن املعقول، وإن كانت من صنع خيال اإلنسان.

ولقد سعى اإلنسان هذا املخلوق العجيب منذ أن وجد نفسه يف هذا الكون إىل حتقيق ذاته

لى وإسعادها، وتيسري كل سبل العيش السعيد، لذلك كان أمام عجزه يهرب إىل اخليال متصورا أشياء تساعده ع

جتاوز كل احملن والعواقب، وكان هذا ديدن اإلنسان والزال، وألن الغاية تربر الوسيلة فإن حبث اإلنسان ال ينقطع

وال ينتهي إال بانتهاء هذا الكون، ورجوعه إىل خالقه.

وال أحد ينكر ما قدمته األسطورة لآلداب ولشىت العلوم من فائدة، فكما ساعدت األسطورة اإلنسان

بداع فقد ساعدته كذلك على االخرتاع واالبتكار، وما التحول التكنولوجي والرقمي إال بفضل خيال على اإل

اإلنسان الواسع، وإن مل تتحقق تلك القوى اليت عرفناها من خالل األساطري واملالحم القدمية إال يف اآلداب، فإننا

لفة مل يعد أسطورة بل أصبح واقعا حقيقيا اليوم نرى أن أسطورة رجل الفضاء وبلمسة زر نسافر إىل عوامل خمت

متجسدا.

فبخيال اإلنسان استطعنا أن نتجاوز الكثري من العوائق واحلواجز اليت لطاملا حرمت اإلنسان من

التواصل مع بين جنسه يف كل العامل واليوم وبظهور التكنولوجيات احلديثة حتول العامل إىل قرية صغرية، حيث

حق كل األفراد واجلماعات، وكل هذا حتقق بفضل األسطورة أو خبيال اإلنسان الذي كلما أصبحت املعرفة من

حقق رغبة تاقت نفسه إىل حتقيق رغبات أخرى، كلها ختدم واقعه وتيسر سبل عيشه، وحتقق له السعادة وتوفر له

الوقت وتقلل من نفقاته املادية.

ووسائطها ة األسطورة بالتكنولوجيا احلديثةعالق -اهللاإن شاء - وفق هذا الطرح؛ سأعاجل يف ورقيت البحثية

املختلفة، موظفة ملحمة جلجامش وأسطورة اخللود.

Résumé en Français:

Le mythe dans sa signification la plus simple est un genre littéraire à caractères

merveilleux fondées sur la légende, où des faits sont transformés par

l’imagination. C’est un récit qui représente l’au delà du réel et qui met en

scène des manifestations extraordinaires et des personnages le plus souvent

surhumains qui ont des pouvoirs surnaturels mais aussi des comportements et

des sentiments humains.

132

Parce que la fin justifie les moyens, l’homme -cette étrange créature- ne cesse

jamais la recherche du plaisir, et afin d’arriver a ses buts il utilise son immense

imagination pour atteindre la joie et la prospérité.

Personne ne peut nier le rôle que joue le mythe dans la créativité humaine

littéraire et scientifique parce qu’il représente l’expression d’une culture. Il

exprime les aspirations profondes de l’imagination humaine et met en scene

des situations éternelles. La pensée scientifique n’a pas réussie à faire disparaitre

le mythe parce que le développement technologique et numérique qui a

transformé le monde en un petit village n’est qu’une autre face de

l’imagination, et de nos jours il s’agit de récits merveilleux des évènements

fondés sur des idées authentiques telles que le voyage dans l’espace.

Selon ce point de vue je tente d’aborder la place du mythe dans les diverses

approches scientifiques et technologiques modernes en employant l’épopée de

Gilgamesh et le mythe de l’immortalité.

تمهيد:

منذ فجر التاريخ واإلنسان كلما حقق رغبة، تاقت نفسه إىل حتقيق رغبة أخرى، ومن رغباته

اليت ال تنقطع؛ حبثه الدائم واملستمر عن كل الوسائل اليت تيسر له سبل العيش، يف كل جماالت

اخليالية اليت احلياة؛ ولو عن طريق اخليال، وكثريا ما شاهدنا على شاشة التلفاز، بعض األفالم

سعى اإلنسان إىل جتسيدها واقعا، كرجل الفضاء، ووسائل نقل أسرع من الربق، وشيئا فشيئا بدأ

طالعنا على عديد من األحباث الرتاثية، ان بعضا من تلك اخلياالت، وحنن بيتحقق هلذا اإلنسا

حثني قد وظفوا مظاهر وخاصة يف جمال األدب قد وجدنا أن كثريا من الباحثني سواء شعراء أو با

خيالية، وأبطاال خياليني هم أقرب إىل األسطورة من الواقع.

مجع اإلنسان البدائي الطبيعة وا�تمع يف كل واحد بني األشياء واألحياء يف وحدة «ولقد

كونية واحدة، وكما أدرك أن لألحياء نفوسا، فقد جعل لألشياء أرواحا، مل يتصور البدائي عامله

يعي جامدا وصامتا؛ بل تصوره حيا مدركا، يسمع وجييب ويتكلم ويرد،... ويف هذه النظرة الطب

األسطورية إىل العامل تتبدى األرواح حالة يف كل مكان، مالئة كل فراغ، ساكنة كل شيء، وتتبدى

قوى الطبيعة وظواهرها من أجرام وكواكب، وأ�ار وحبار ورياح، قوى وظواهر حية قادرة على

إلدراك والفعل والتأثري، كما تتجلى اجلوامد من حبار وجبال وأشجار وصخور كائنات حية قادرة ا

على الفهم والتدبري، وجعلت هذه النظرة األسطورية بني قوى الطبيعة وظواهرها وجوامدها

133

(عالقات) شبيهة مبا بني البشر... أي إن النظرة األسطورية بثت يف الطبيعة (إنسانية) تعي وتفعل

1».وتؤثر

وألن فكر اإلنسان يتطور بتطور الزمن، فقد توصل بفكره وخياله إىل اكتشاف تقنيات عظيمة

يسرت له كل سبل احلياة، من جلب للمعرفة وتوفري للوقت، وتواصل بدون عناء سفر إىل كل

سطورة بكات العنكبوتية، فانتقلت نظرية األوسائل التكنولوجيا احلديثة والش بقاع الكون بفضل

للطبيعة احمليطة مظاهرها إىل جتسد واقع مجع العامل بأسره يف القرية الكونية، وكل هذا بفضل خيال

اإلنسان الذي ال يتوقف أبدا عن التأمل والتدبر، ولكن كيف استطاعت األجيال املتعاقبة أن

تفرق بني اخليال والواقع؟.

ظيف األسطورة يف إبداعا�م، حيث عمدوا لقد استعان كثري من األدباء بتو األسطورة واألدب:

توظيف رؤاهم الفكرية اإلبداعية ملبسني الرتاث ثوبا جديدا حممال بقدرات دائمة على العطاء

املتجدد، وحمافظني يف الوقت ذاته على أصالة األسطورة وعراقتها، ولكن ماذا نعين باألسطورة؟

مفهوم األسطورة:

ر، والسطر هو الصف يف الكتاب والشجر والنخل وحنوها، األسطورة من الفعل سط. لغة: 1

واجلمع من كل ذلك أسطر وأسطار وأساطري وسطور؛ والسطر هو اخلط والكتابة، واألساطري هي

2 األباطيل واألحاديث املنمقة اليت ال نظام هلا ومفردها؛ أسطار وأسطارة وأسطورة.

سعة مواضع بصيغة اجلمع مع اإلضافة، قال ولقد وردت كلمة أسطورة يف القرآن الكرمي يف ت

لى عليه آياتـنا قال أساطير األولين «تعاىل: وهذا على لسان الكافرين واملنافقني الذين 3،»إذا تـتـ

أنكروا ما جاء على لسانه عز وجل يف القرآن الكرمي من قصص األولني و�اية الظاملني واإلخبار

ني.عن يوم العامل

، وهي Mythويف اإلجنليزية Mythosأما يف اليونانية، فقد اشتقت األسطورة من لفظ

تعين بذلك حكاية تقليدية عن اآلهلة واألبطال؛ لذلك وجد مصطلح ميثولوجي

)Mythology،(علم دراسة األساطري) 4) يف اإلجنليزية مبعىن

ة أو جمموعة من احلكايات أو الروايات ويف اعتقاد (جريالد الرسون)؛ إ�ا حكاي: اصطالحا. 2

املنسوخة عن اآلهلة أو القوى الغيبية واملتداولة بني الناس يف العشرية أو القبيلة أو اجلماعة العرقية،

تعرض جتار�ا وعاملها فرديا أو مجاعيا، كما أ�ا تفسر خلق الكون واإلنسان ونشأة املوت والقرابني

5وأعمال األبطال.

134

نظر رايرتس مسيث، فإن األسطورة ليست جزءا جوهريا من دين قدمي، بل تستنبط من ومن وجهة

6العادات والتقاليد والشعائر، وهي تفسري للشعائر الدينية وتأويلها.

ومهما يكن من أمر، فلقد اختلف املفكرون والباحثون يف الوصول إىل حتديد مفهوم ثابت وقار

، وبعضهم يرى أ�ا جمموعة تصورات تتجاوز الفعل املوضوعي، لألسطورة، فبعضهم يراها حكاية

وبشكل عام، فاألسطورة رغم تضارب اآلراء هي جمموعة من احلكايات الطريفة املتوارثة منذ أقدم

الفرتات والعهود اإلنسانية، تكون حافلة مبختلف أنواع اخلوارق واملعجزات اليت خيتلط فيها الواقع

لظواهر مبا فيه من إنسان وحيوان ونباتات ومظاهر كونية بعامل ما فوق باخليال، وميتزج عامل ا

الطبيعة من قوى غيبية آمن �ا اإلنسان األول، واعتقد بألوهيتها فتعددت نظرة اآلهلة مقرتبة بتعدد

7مظاهرها املختلفة.

لسياسي هو أنه لكل أسطورة إطارها االجتماعي والتارخيي والديين وا هإن ما نود الفصل في

واألديب.

أن األسطورة والشعر شيء واحد ال انفصال بينهما، بينما «يشري شليجل إىل األسطورة والشعر:

يرى فيكري أن األسطورة هي املنبع األصيل لإلهلام األديب، فغدت احلكم واألمثال والقصة

ولقد أهلمت 8عوب،واحلكاية والرواية والشعر وغريها، تعبريا عن الطابع الفين والفكري ألدب الش

-م1756األسطورة املفكرين واألدباء والفنانني، ومن أشهرهم قدميا املوسيقار األملاين "موزارت" (

م) حيث ألف األوبرا العاملية (الناي السحري) متأثرا بعمل الكاتب األملاين (جوته)، كما 1791

أكتوبر 9لتوفيق احلكيم (كتب بعض األعمال املعاصرة املستلهمة منها مثل: مسرحية (إيزيس)

)، تلك اليت عرضت للصراع بني رجل العلم واملبادئ ورجل احليل 1987يوليو 26-م1898

والسياسة وهذا العمل (إيزوس وأوزوريس)، ميثل العمل الثامن عشر بعد املائة (لبلوتارك) من

9مؤلفاته العديدة.

ملالحم واألناشيد واألشعار اليت كانت مبثابة ولقد تركت لنا احلضارات القدمية كثريا من األساطري وا

.مرآة عاكسة جلوانب خمتلفة ومتعددة من طبيعة احلياة البشرية

وعلى هذا االعتبار، فقد ارتبطت األسطورة باألدب واللغة ارتباطا وثيقا بعدها تراكما ملخلفات

األسطوري يعد من أكثر الفكر اإلنساين املبدع يف جمال األدب والفن، على أساس أن الرتاث

أنواع الرتاث صلة بالتجربة الشعرية، إذ األسطورة هي التجربة األوىل للشعر، والعالقة بني الفن

بشكل عام وبني األسطورة هي عالقة قدمية، إذ كانت األساطري مصدر إهلام للفنان والشاعر،

135

ديدة ألسطورة من لذلك جاء كثري من األعمال الفنية والشعرية مبثابة إعادة صياغة ج

10األساطري.

ويف أمهية الشعر يرى أرسطو أن الشعر إما أن حياكي الناس خريا مما هم يف الواقع، أو أسوأ مما

هم عليه، أو كما هم يف الواقع، واألمر نفسه ميكن أن يقال عن الرسم والعزف بالناي

11والقيثارة.

بد أن تكون لغة هادفة، والبد أن تكون أداة إن اللغة اليت توظف األسطورة يف موضوع ما، ال

لتحويل العامل إىل ما هو أفضل، لذلك وظف الشعراء القدامى األسطورة يف أشعارهم ألن هلا أثرا

طيبا، مث إن للكلمة سلطة إذ إن الكلمة يف الشعر أو املسرح ال تقول الشيء نفسه إمنا تكونه.

ري على أن الشعر يف نشأته كان متصال باألسطورة، ال ولقد أمجع نقاد الشعر واملهتمون باألساط

باعتبارها قصة خرافية مسلية، وإمنا بعدها تفسريا للطبيعة والتاريخ، وللروح وأسرارها، واملعىن من

وراء هذا االنطباع هو أن األسطورة نكشف فيها عن رموز لألشياء، ألن األساطري ما هي إال

أفكار متنكرة يف شكل شعري.

ولعل من أشهر األساطري العاملية واملالحم واألعمال األدبية يف الرتاث اإلنساين ما يلي:

إيزيس وأوزوريس (أسطورة مصرية قدمية). -

اإلله املختفي (أسطورة حيثية قدمية). -

املسوخ واملخلوقات اخلرافية يف األساطري القدمية -

مغامرات هرقل (أسطورة إغريقية). -

ة).سد مأرب (أسطورة عربي -

الشيطان اهلارب (أسطورة نروجيية). -

إيزاناجي وإيزانامي (أسطورة يابانية). -

ــــث أمحد سويلــم ما ــــح واألعمال األدبية يف الرتاث العاملي اليت قام جبمعها الباحــ ومن أشهر املالمـ

يلي:

ملحمة جلجامش (ملحمة بابلية قدمية). -

ية).اإللياذة واألوديسة هلومريوس (ملحمة إغريق -

اإلنيادة لفرجيل (ملحمة رومانية). -

باغ و�ار (ملحمة هندية). -

الشاهنامة للفردوسي (ملحمة فارسية) -

136

رسالة التوابع والزوابع البن شهيد األندلسي -

رسالة حي بن يقظان "البن طفيل األندلسي". -

رسالة الغفران أليب العالء املعري. -

الية).الكوميديا اإلهلية لدانيت إليجريي (ملحمة إيط -

الفردوس املفقود جلون ملتون (ملحمة إجنليزية) -

رسالة اخللود حملمد إقبال (ملحمة أردنية). -

وكل هذه األساطري واملالحم تدل على تطور الفكر اإلنساين وكيف رأى ويرى الوجود، والكون

ة إىل ما وأسرار الغيب، واحلياة فوق األرض، وكلها حيمل قيما وأفكارا، وعربا ومغازي باإلضاف

حيمله من متعة الوجدان، والرغبة يف القراءة والسفر بعيدا بالعودة إىل زمن تلك األساطري واملالمح.

أسطورة أو ملحمة (جلجامش) هي أعمال بطولية أسطورة جلجامش وتوظيفها في الشعر:

ان خارقة بطلها جلجامش الذي كان حاكما على مدينة (أورك) أو (الوركاء) السومري... وك

ق.م) ويقال إن هذه 2600-2150ذلك حوايل منتصف األلف الثالثة قبل امليالد (ما بني

امللحمة قد نقشت على اثين عشر لوحا، واكتشفت هذه األلواح يف منتصف القرن التاسع عشر

ميالدي (يف نينوى) بأرض الرافدين... وترمجت إىل كل لغات العامل... وحيفل األدب البابلي

ألساطري واملالمح اليت تقدم أبطاهلا على أ�م آهلة جبارة، أو شخصيات فائقة القوة ... بعدد من ا

12ومن مث كان (جلجامش) جيمع بني اآلهلة والبشر يف شخصيته.

لقد عرفت حضارة بالد ما بني النهرين منوا خارقا «ومن هذه امللحمة يقول روجيه عساف

لثة ق.م امللحمة واألساطري واحلكاية والقصائد، التحرير للفنون األدبية منذ أواخر األلف الثا

التارخيي واألدب احلكمي، احملاورة الفلسفية والتدوين احلقوقي،...، إن مدن (سومر) وهي أول

) ومنشأ Cunéiformeالتشكيالت املبنية القدمية كانت مهد الكتابة األوىل (املسمارية =

التألق عندما اندمج السومريون ذو األصل الغامض مع الدول احلضرية، وبلغت ذروة االزدهار و

األكاديني الساميني، وانبجست قدرا�م اإلبداعية يف تطور اهلندسة وتنمية الفنون وارتقاء الفكر

األديب، إذ جند قمة هذه احلضارة الباهرة يف ملحمة "جلجامش" اليت تعرب بشكل رائع عن روابط

13».اؤل الوجداين يف زمن ثقايف معنيالفنون األدبية جبوهر الفكر والتس

ومن وجهة نظر روجيه عساف فجلجامش أسطورة سومرية والصياغة أكادية، بطلها اجلبار

جلجامش الذي تقول السري: إنه كان طاغيا على رعاياه، فأرسلت اآلهلة جبارا آخر هو (إنكيدو)

)Enkidulشة، فيتصدى له (جلجامش) ) وهو إنسان بدائي مهجي يعيش مع احليوانات املتوح

137

إىل أن تسلط اآلهلة محى على 14دون أن يتغلب عليه فيصبحان صديقني محيمني ال يفرتقان،

(أنكيدو) فيموت وحيزن عليه صديقه (جلجامش) ويقرر أن يبحث عن سر اخللود، فيسافر سفرا

بتة اخللود غري أنه طويال يالقي فيه كل املصاعب واملخاطر ولكنه ينتصر عليها كلها وحيصل على ن

جيلس ليسرتيح ويضعها جانبا، فتأيت حية وتأكلها وختتفي بعيدا.

وحتصل احلية على اخللود وطول العمر،... وجيدد جلدها كلما شاخت... لكن (جلجامش)

15يعود خائبا وميوت ... ألن اخللود غري مقدر له ... وتنتهي امللحمة �ذا النشيد:

قوم مرة أخرىلقد رقد امللك ولن ي

لقد قهر الشر

لكنه لن يقوم ثانية

كان حكيما ووسيما

لكنه لن يأيت ثانية

لقد ذهب إىل اجلبل

ولن يأيت ثانية

إنه ينام على سرير القدر

ولن يقوم ثانية

ومن األريكة متعددة األلوان

لن يأيت ثانية

اليت كتبها شعرا يف اثنيت عشر قصيدة أو لقد وظف كثري من األدباء واملبدعني، هذه امللحمة

أغنية أو نشيدا، حيث تتألف كل منها من حنو ثالمثائة بيت ... وقد صيغت صياغة حمكمة،

16والبد أن الراوي أو املنشد كان يرتلها على اجلمهور شفاهة مبا يقر�ا من األناشيد والطقوس...

أحد الشعراء املعاصرين من العراق، وهو فقد وظفوها يف أشعارهم ويف إبداعا�م، ومن هؤالء

الشاعر أمحد حممد الرمضاين صاحب قصيدة "طني األبدية" حيث وقف عند كل حدث من هذه

امللحمة ونسج على منواهلا أبيات قصيدة اليت هي يف احلقيقة رمز للحياة واملوت، وللخري والشر،

دة حتت عنوان: تشطي الذات وللخصب والعطاء... ولقد قمت بدراسة نقدية حول هذه القصي

».طني األبدية«اإلنسانية يف قصيدة طني األبدية، وهذه أبيات من قصيدة

هل جربت أن تركب غيمة ذهبية أنكيدو: جلجامش يا صديقي

تغيـر مالمح العامل ابتسامتك لنعشي...،؟ غفت على ضفة الفرات...،؟

138

:جلجامش

آه...

ت أغصان قلوبنا عندما هجر�ا عصافري اآلهلة... كم تغري

متلملت على توابيتنا آية األرز محلها الطبالون بأعراسهم

رائحة الغاب �لهل صلوا�ا، لياليا و أياما

للشاعر إليا أيب ماضي نا أقرأ العنوان. هي قصيدة *احلجر الصغري*إن أول ما تبادر إىل ذهين وأ

:اليت مطلعها

نسي الطين لحظة أنه ***طين فعربد وتمرد

ليا أبوماضي هو أحد أدباء املهجر .وعند قراءيت األوىل لبعض مقاطع قصيدة طني األبدية. إيو

الالزمة اليت اتسم �ا شعر تلك .تذكرت الوقوف على األطالل لشعراء العصر اجلاهلي، تلك

:فتذكرت حينها قصيدة المرئ القيس مطلعها احلقبة الزمنية.

.قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل*** بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وأنا أنتبه إىل أسلوب احلوار الذي وظفه الشاعر الرمضاين بني جلجامش وصديقه

أجد نفسي أمام أسطورة قدمية متثل احلضارة العراقية انكيدو...وذكر عشتار رمز احلب واخلصب..

القدمية. فتشجعت إلكمال القراءة ألن كل ما فيها فتح شهييت للبحث عن غرض الشاعر من

نظمه هلذه القصيدة....وأنا أواصل القراءة اتفاجأ من انتقال الشاعر من عصر إىل آخر؛ من

-عليه السالم-زمن امليالدي زمن ميالد عيسى العصر القريب مث العودة إىل ما قبل امليالد، ال

وكأن الشاعر يريد أن يصحح اعتقادات ما قبل امليالد (اإلله جلجامش واآلهلة عشتار)...وهنا

أيقنت أن نفسية الشاعر تعاين من نتائج التغيري واالضطرابات احلاصلة يف كل ما حدث وما

حى بالعراق، مرورا إىل طرد زين حيدث للعرب...بدءا من شنق صدام حسني يوم عيد األض

العابدين بتونس، فنفي حسين مبارك مبصر وصوال إىل قتل وتشويه جثة القذايف بليبيا وحصاد

نتائج الربيع العريب.إنه ليس بعصر عشتار وزمن اخلصب، وال زمن العصر اجلاهلي وتنافس الشعراء

وجمتمع املعرفة.. عصر التكنولوجيا واألدباء، لكنه عصر احلداثة وما بعد احلداثة... عصر النفط

واحلروب والدمار الشامل لكل الدول واملعلومات واالتصال الرقمي... عصر *القرية الصغرية*..

.العربية

...لقد أصبح الشاعر سجني أفكاره وثقافته وتتبعه ألحداث الزمن من ما قبل امليالد إىل اليوم

139

حي بصراع اإلنسان كي يعيش.. صراع بني املوت إن معظم األلفاظ اليت وظفها الشاعر تو

:يلي واحلياة... صراع من أجل اخللود.ومن ألفاظ املوت ما

نعشي، توابيتنا، املوتى، القرب، حنن أبناء احلياة محلنا ورقة املوت، �ر الدم، جثة، حياة أيها

....املوت يا من تتلمس القلوب

عمقك وقد ..وعلى بركة الوقت تعرت احلياة، اندلعت تالوةومن ألفاظ التغيري: عندما تغري العامل.

...محلها الصلصال

تالوة، الصحف، سدرة الرب، عيشة راضية، نطفة، القيامة، العاملني، ومن األلفاظ الدينية:

تتمايل على الفجر، مهد القدر، يا اهللا، مغفرة، قرأت عليه سجدت لنا املالئكة، املشيئة، أية

.طيين، خررت ساجدا، شالل عفوك، يا جلمالك وسبحانكآياتك، ساللة

إن معجم األلفاظ الذي وظفه الشاعر ثري ولكل لفظ أبعاده الداللية والتدوالية..إال أن املقام

ميكن أن نسقط عليها معظم النظريات النقدية ال يتسع إليراد كل بعد، إذ إن هذه القصيدة

...تداولية وصوال إىل نظريات احلجاج والتواصلبالسيميائية مرورا بال احلديثة بدءا

يريد الشاعر من خالل قصيدته تصوير وجعه ووجع كل من يتمعن يف هذه احلياة اليت مل يعد فيها

.رجاء ألحد

ندفع مثن خطيئة أبينا آدم الذي أغواه الشيطان وأومهه بشجرة اخللد وملك ال يفىن. هذه إننا

عر مادته أي من قصة ادم وشجرة اخللد.ليقابلها بأسطورة عشتار القصة اليت استقى منها الشا

وجلجامش...فجلجامش هو كذلك كان يبحث عن اخللود. وعلى الرغم من انه غاص يف اعماق

البحار من اجل عشبة اخللد إال أن احلية أخذ�ا منه، أ�ا أسطورة ما قبل جميء اإلسالم الذي

اهللا والبشرية مجعاء..ان ملحمة جلجامش وعشتار هي قصة أنبأنا حبقيقة اخللد بقصة ادم وعدو

ادم حواء كما رو�ا كل الكتب السماوية إال أن املغرضني قد حولوها اىل أسطورة خلدمة مصاحلهم

.وأهواءهم

إن غرض الشاعر من توظيفه ألسطورة عشتار وجلجامش، هو التأكيد على ان هناك كثريا من

أن كانت األسطورة هي رمز آلدم وشجرة اخللد، فإ�ا رمز كذلك الذين يطمحون إىل اخللد، و

إلنسان العصر احلايل وللحكام ولكل من يعتلي كرسيا وال يريد أن يتزحزح من عليه... إنه صراع

اعتالء املناصب وعدم تركها ولو على حساب الشعوب.

يكشف للمتلقي ان اإلنسان يرحتل الشاعر الرمضاين يف قصيدته بني العصور القدمية واحلديثة ل

.سيظل يف صراع مع احلياة بكل من لعبها إىل أن يلفه الرتاب.إ�ا خصيصة كل إنسان

140

إن موضوع أي نص أديب هو العامل، وإن األطر املرجعية هلذا النص هي النصوص األدبية

على والثقافية..وهذا هو التناص الذي قالت به جوليا كريستيفا اليت تعرف النص بأنه مبين

17طبقات، وأنه يتكون أي طبيعته الرتكيبية من النصوص املتزامنة له والشارقة عليه..

إن النص حني تشرحيه ميكن مالحظة مكوناته األساسية اليت هي جمموعة من النصوص أو

االت رمزية إىل هدم النصوص، أو إشارات ثقافية حتيل إىل عامل نصاين حلأجزاء منها فقط، أو

وعلى هذا األساس تظهر يف نص الرمضاين عند التحليل أنواع من التقمص والتجلي إن معني..

.على مستوى السطح أو على مستوى البنية العميقة

ن نص الرمضاين ميثل انتقاال من جنس خطايب إىل آخر. من ألشعر إىل الرواية إىل األسطورة، إ

التبليغي. ...ومن السيميائية إىل من النص النثري اىل النص املسرود الشعيب..إىل النص

التفكيكية...ومن املنهج االنطباعي إىل املنهج البنيوي...أن هذا االنتقال واالرحتال من خطاب

إىل غريه هو نوع من اخلطاب التحريضي هذا اخلطاب الذي ال يرتك قارئه غري عابئ حبمولته

يدفعه لالخنراط الناتج عن طبيعة النص املعرفية، وال مبنهجية مقاربته، إنه يدفعه للقراءة كما

18التحريضية اليت تدفع املتلقي إىل املساءلة والتأمل.

إن قويل بأن طني األبدية للشاعر أمحد حممد الرمضاين قد ذكرين بالوقفة الطللية، ولقد اقتبس

أنه اللحظة الشاعر هذه السمة لصدق أحاسيسه جتاه الواقع املر الذي نعيشه وال نستطيع تغيريه..

الطللية هي من وجهة نظر يوسف سامي اليوسف هي" تعبري صادق عن جدلية العالقة اليت تربط

اإلنسان بالطبيعة من نشاطاته اإلبداعية والعاطفية والوجدانية، ومن حيث انعكاس تقلبا�ا على

. أفق التعارض(القراءة التاويلية للنص الشعري القدمي بني وعيه الذايت لتصبح صورة حقيقية عنه"

نين وأنا أتابع قراءة القصيدة..أجد نفسي أمام أطوار متعددة من الزمن ما قبل امليالدي، إ

بكر الطوفان...مث عصر داوود، -عليهما السالم -(جلجامش وعشتار)..مث زمن زمن نوح موسى

ه السالم عليهم، لقصة يونس عليه السالم (ساعيت...يونس علي -فزمن يوسف وداوود وسليمان

وكونه لصالة الظلمة).

فعن قصة يوسف ذكر الشاعر (ينام نيب حمتضنا مترة، - عليهما السالم -سى بن مرمي يفعهد ع

تركض مشس قاحلة..تولد سنبلة قصرية..اطاهلا ظل أهللا. .) وعن مجال يوسف (قمر يتنزل كل

نسيت بئر نوايا).. وعن مرمي صباح)وعن قصته مع إخوته والذئب (بئرا وذئبا، إذا جيء بالقيمة

(تفرس قلب التاريخ، امرأة ترضع تابوتا، ...خنلة غبار تربق شفتها، روح تزهد مساؤها، على جناح

141

جنمة يزينها املسيح، أيتها القديسة) وعن سليمان (هدهد من نار يشاء قلبه للصراط، معجزات

رسل وكواكب شىت عرش بلقيس وهو حيمل الزمن).

ن قصيدة طني األبدية ليشعر وكأنه أمام كتاب خمصص لتفسري قصص األنبياء، إن النوم ع

ولكن ما غرض الشاعر وما عالقة العنوان �ذه القصص اليت ذكرت كلها يف آخر كتاب مساوي

(القرآن الكرمي)؟؟؟ إنه التذكري ! أومل يستهل الرمضاين قصيدته بلفظ "* ذكرى*؟؟؟ إذن "تكمن

ذا اللفظ (ذكرى) عمال بقوله تعاىل*ذكر فإن الذكرى تنفع املؤمنني *مغزى الشاعر هنا يف ه

وبني املاضي اجلميل واحلضارة العراقية القدمية، وبني ما طرأ على مهد العلم والعلماء من تغريات

وما حل �ا من دمار وتشريد وانقسام اجلماعة الواحدة املوحدة إىل فئات وعروش وقبائل،

ودينية تنكسر الذات اإلنسانية إىل شظايا مثلها مثل قطعة الزجاج او البلور، وانتماءات سياسية

وأمام هذه األحداث املؤملة تفتقت قرحية حممد الرمضاين متذكرا املاضي العتيق واحلاضر املؤمل ليعلن

يف �اية قصيدته ان اخللد هللا سبحانه وتعاىل .

عشوائيا وإمنا أختاره الشاعر اختيارا مقصودا إن عنوان القصيدة * طني األبدية * مل يأت

ليخدم مضمون نصه الشعري من بدايته إىل �ايته.

وجتدر اإلشارة إىل أنه قد استقى مادته كلها من الطبيعة، وهو ديدن أدباء املهجر (آليا أبو

بيعة، ماضي، جربان خليل جربان، نسيب عريضة، أمحد حداد... ) الذين اختبئوا وراء ألفاظ الط

نظرا لوجودهم بديار الغربة، وألن التصريح بشعورهم لوطنهم وبتعاطفهم معه، مل تكن ظروفهم

لتسمح بذلك، وهلذا كان شعرهم رمزيا.

وعلى اعتبار الشعر الرمزي اهلادف إىل التعاطف او الدفاع عن قضية وطنية او من أجل التغيري

فسه يف الطبيعة احمليطة به، تلك الطبيعة اليت خلقها أو التصحيح يف املعتقدات، وجد الرمضاين متن

اهللا لتكون وسيلة تعبريية، وأية للتأمل والتدبر يف هذا الكون العظيم الذي هو دليل على عظمة

خالقه، ودون تأخر هرع الرمضاين إىل توظيف كل الفاظ الطبيعة وكل مظاهرها وتقلبا�ا الكونيه،

ت هذا الكائن الغريب والعجيب من كل خملوقات الكون، أال ليعرب وليسقط كل ما فيها على ذا

وهو اإلنسان الذي سخر له اهللا الطبيعة بكل ما أوتيت* وهو الذي جعل لكم من الشجر

األخضر نارا فإذا انتم منه توقدون)، باإلضافة إىل خلق السماوات واألرض، والشمس والقمر،

...والبحر واجلبال، واحليوانات والطيور، وغريها

أن املتمعن يف قصيدة الرمضاين ال يفتأ خيرج من مشهد إىل غريه...ومن متحف اآلخر. .فمرة

يشبه رساما، وأخرى ساردا، وطورا آخر مفسرا أو مرشدا..

142

يقول الشاعر: على ضفافه أرسم نيزكا احاطه التفاح...فنسي ان يكتب ليل الطني..

تدفن نور األلواح. .تفرش قلب التاريخ. . خلفاش..تسلل حزن ا. جثيت... يصرخ... ميثل غيمته..

.امرأة ترضع تابوتا .

وعلى أساس كل ما يف الطبيعية أراد الشاعر ان يوظف كل موجودا�ا، ماحنا لكل خملوق كوين

وظيغة تليق به..يقول : وهو ينضج الشعائر، أيتها القديسة...مرارا، على أطراف ثوبك غفر

طع يبشر مبيالد املسيح عليه السالم، وكيف أن أمه قديسة أل�ا كانت اهلالل... إن هذا املق

تتعبد..هو مل يصرح بذلك وإمنا ذكر اهلالل وهو رمز مليالد سيدنا عيسى..والشعائر رمز لعفة مرمي

وطهار�ا.

ومل يكتف الشاعر بالرمز..وإمنا انتقل إىل الوصف والسرد قائال: تابوت حتمله املالئكة، نور

جلى لطينه...شاطئ مسك تلظمه الذكرى، على الطبول صدى..خيطف أبصارهم..وهو وصف يت

مليالد سيدنا عيسى.

ينحرف الشاعر بلغته إىل أسلوب اخلطاب، وكأ�ا يذكر وينبه فيقول: أيها اإلنسان البائس على

اء قلبه جدلية مرآتك، �ر تتفشى ضفافه نغمة ...بوراقا يسري باآلهلة ..هدهدا من نار يش

للصراط ...معجزات رسل وكواكب شىت حر إذا جيء بالقميص..نسيت بئر نواياك...بيخاف

وكأس من معني..

أنه اإلبداع يف أجل صوره، االنتقال من عصر إىل عصر، ومن قصة نيب إىل قصة نيب آخر،

يص انتقال فيه اختزال الزمن واألحداث من سليمان واهلدهد، إىل يوسف والكواكب والقم

والذئب. وكأنه يأخذ العرب من قصص األنبياء لينبه هذا اإلنسان البائس. وكأنه خياطبه قائال: يا

من تطمح نفسه إىل اخللود. عد إدراجك وتذكر نوحا وموسى وداوودا وسليمان ويوسف واملسيح

وكأنه تذكر قوله تعاىل:* با�ا ما غرم بربك* -عليهم السالم-

جئنا الشاعر بعودته خيربنا عن قصة حواء مصداقا لقوله تعاىل * وطفقا يفا وبعد ذكر األنبياء

غين..للورقة وهي تغطي حواء..ومل ينس قصة بلقيس أسخيصفان على عليهما بأوراق اجلنة* قائال

وملكها الذي سبقها عند سليمان عليه السالم . قائال: لعرش بلقيس وهو حيمل الزمن...

نتقل إىل األحداث الىت وقعت قبل خلقنا...ليختم بعصيان آدم وال يكفيه ذكر القصص بل ي

لربه. (آدم والتفاحة).ولغضب يونس عليه السالم على قومه..والتقام احلوت له..وكيف ان اهللا

استجاب له بعد أن سبحه يف الظلمات*ال إله إال أنت سبحانك إين كنت من الظاملني*

143

من كل األوضاع الراهنة. .وكأ�ا األحداث نفسها تنعاد وخيتم الشاعر قصيدته بنهاية يائسة حزينة

بنفس الوترية...سيظل اإلنسان ممزقا بني رغباته يف العيش الكرمي وبني الوسيلة لتحقيق ذلك..إننا

وبكل بساطة جئنا إىل هذه األرض لندفع مثن خطيئة ابينا آدم. آدم كان عدوه الشيطان، وعلى

هم كثريون، إ�م أعداء السالم، إ�م دعاة الفساد، واستباحة وجه هذه البسيطة أوالد الشيطان

الدماء يف األراضي العريب واإلسالمية، أ�م أعداء اهللا الذين أعد هلم نار جهنم خالدين فيها وال

يزحزحون عنها.

صلى اهللا عليه -إن ما مل أجد له ذكرى يف هذه القصيدة، هو ذكر حممد خامت األنبياء والرسل

وال أدري ملاذا مل يذكره الشاعر، وإن كانت معظم قصص األنبياء مقتبسة من آخر كتاب -وسلم

مساوي أال وهو القرآن الكرمي.

حاولت أن أتناول هذه القصيدة من وجهة نظرية واحدة، إال أنين، رأيت أنين رمبا ال أستطيع

ل ما استطعت إليه سبيال. أن أمل بكل ما يود الشاعر إيصاله للمتلقي، لذلك قمت بشرح وحتلي

ولو أنين أرغب ان تكون دراسيت حول شعرية العنوان.

تتزاحم معظم النظريات النقدية احلديثة يف ذهين من أجل دراسة قصيدة الرمضاين، إال أنين

قمت بدراسة تأويلية، ألن أول ما يتبادر إىل ذهن أي متلق هو التأويل. ..وبعد ذلك تتضح معامل

األخرى. يف هذه املنظومة الشعرية للرمضاين، فإنه للكشف عن معاين نصه ال بد من النظريات

الرتكيز على التصميم اللفظي،أي على عمل اخلطاب،ذلك الذي يولد الغموض الداليل الذي

يسم أي خطاب شعري إذ " عمل اخلطاب هذا هو الذي متكن رؤيته يف الصورة اليت تصغرها

19ل وفائض املعىن.االستعارة" (نظرية التأوي

ومما يالحظ على قصيدة الرمضاين أنه قد وظف األسطورة والطبيعة بشكل يكاد يطغى على

القصيدة من أوهلا إىل �ايتها، وهذا رب وعي منه من أن " األسطورة ليست موضوعا وال

أن نضع مفهوما وال فكرة، إ�ا صيغة من صيغ الداللة، إ�ا شكل و يف وقت الحق ال بد من

هلذا الشكل حدودا تارخيية،وشروط استخدام،إلعادة استثمار ا�تمع من خالهلا،وهذا ال مينع أوال

20من وصف ا�تمع بوصفه شكال".

ن كل ما خيضع للخطاب ميكن أن يصبح أسطورة مع مرور الزمن،، فالعامل معني ال ينضب إ

د مغلق أخرس إىل حالة ناطقة أمام ما من االحياءات، إذ ميكن ملوضوعاته أن تنتقل من وجو

ميتلكه ا�تمع من ألفاظ للتعبري، ألنه ما من قانون طبيعي أو غري طبيعي مينعنا من الكالم، أقصد

أن الشجرة هي الشجرة ولكنها حني تقوهلا (مسنود رويه) فهي ال تعود شجرة متاما،بل ،من النطق

144

فيها ا�امالت، والتمردات، والصور، تصبح شجرة مزينة، خاضعا الستهالك معني، ووضعت

أن واحللو، والربكة، وباختصار حتولت الشجرة إىل استعمال اجتماعي مضاف إىل املادة اخلام،

كثريا من املوجودات الكونية قد يتحول إىل فريسة للتعبري االحياءات. فبعضها يتحول مع مرور

بعضها يتحول إىل رموز دالة على أمور الزمن إىل أساطري وتداوهلا األجيال جيال بعد جيل، و

حياتية قد ال حنتاج فيها إىل اخلطابات الطويلة املضنية، بل إىل رمز دال أو عالمة متعارف عليها

عامليا أو حمليا.. الختزال الكالم...وهذا هو علم السيميولوجيا، أو علم العالمات كما حيلو

لبعض الباحثني تسميته.

أعمال االجتماعي، واستعماالته املتعددة يف سبل التعبري بين الشاعر وانطالقا من روح إيل

والتفاحة لريمز إىل الرمضاين تصوره لقصيدة "طني األبدية " وظف الزيتونة تلك الشجرة املباركة،

ومرة للنور كما وظف الشمس مرة رمزا للحرارة الشديدة، -عليه السالم-خطيئة آدم

لفاظ املستقاة من الطبيعة احمليطة به، أو من األمساء اليت هلا دالال�ا املضيء،...هكذا عن باقي األ

يف األسطورة، جلجامش، وعشتار، وغريمها من شخصيات ملحمة جلجامش وعشتار. ..

تشظية ومنكسرة، من اجلري وراء حلم ال يدة كما هي نفس الشاعر متشظى الدال يف هذه القص

عد القيامة.يكون إال يف العام الثاين، عامل ما ب

وميثل نص"طني األبدية " كتلة من النصوص احملضرة من األسطورة و من الطبيعة ومن

النصوص الدينية؛ وهذا هو جوهر التناص الذي طورت الباحثة ( جوليا كريستيفا ) مفهومه عن

21 احلوارية أو الصوت املتعدد الذي اقرتحه الناقد واملفكر الروسي (ميخائيل باختني ).

وجتدر اإلشارة إىل ان التناص يستمد قيمته النظرية و فعاليته اإلجرائية من كونه يقف رهانا يف

جمال الشعرية يف نقطة حتليل تقاطع/ تالقي التحليل البنيوي للنصوص واألعمال األدبية بصفة

هو خارج عامة، بوصفها مغلقا حييل على نفسه مع نظام اإلحالة أو املرجع بوصفه مؤشرا على ما

نصي. ومن هنا فان التناص مرتبط ارتباطا منطقيا باملتلقي، وال ميكن كشف التناص إذا كان

املتلقي جاهال بالتداخالت النصية يف نص املؤلف، ولذلك فإن التناص هو جهد تأويل يرمسه

هذا املتلقي باالستعانة على عوامل عدة؛ نذكر منها ،أنساب النصوص وواردا�ا وأعمارها؛ وعلى

وهذا الذي قمنا بتطبيقه يف دراسة 22األساس ينبغي أن يكون منهج الدراسة التناصية تاويليا.

قصيدة الرمضاين.

وتفرتض قصيدة الرمضاين يف جمال نظريات التلقي قارئا منوذجيا ذلك الذي جيمع بني

نص األصلية، يف حني القراءتني السطحية والعميقة؛ إذ يعطي لنفسه يف القراءة األوىل داللة ال

145

أخرى مينح لنفسه يف القراءة الثانية التأويل اخلاص به؛ وهلذا السبب ينفتح النص الواحد على

فإن كل قراءة نص هي قراءة قراءات متعددة وخمتلفة بناء على اختالف مستويات ونوع املتلقني،

املعىن املتعدد أو عىن،وعلى هذا االعتبار ظهر التأويل فائض امل، مقرتحة وليست قراءة منتهية

للنص، أو ظهر االختالف، وهذا هو جوهر العمليات النقدية والدراسات األدبية.

أن املالحظ يف قصيدة الرمضاين، أنه قد استلهم تراث أمته استلهاما كبريا. ولو ان هناك بعض

،ن زمن إىل زمنلتكرار واالنتقال مالغموض الداليل الذي مل أستطع تفسريه، خاصة يف أسلوب ا

وإن كان مفهوم التناص عند كريستيفا ، ألسطورة وأخرى من النصوص الدينيةتكرار أحداث من ا

يبدد بعضا من هذا الغموض، وذلك أن التناص عندها يندرج ضمن إشكالية اإلنتاجية النصية

طبيعة ال إذ يشكل النص عندها جمال عمل ذايت التوليد يفكك اللغة اليت تتبلور كعمل النص،

استبداهلا بتعددية املعاين اليت يستطيع القارئ وحىت الكاتب إجيادها انطالقا املرتكزة على التمثل، و

أو التمعن على عكس ،من سلسلة جامدة ظاهريا ،هذا العمل الذي تسميه كريستيفا بالدالئلية

23الداللة.

له من أجل الوصول إىل وهذا ك-كما سبق الذكر-أن النص الشعري خاضع للتفكيك والتأويل

وهو عينه ما تفطن إليه النقاد العرب القدامى كاجلاحظ الذي قال: "ألن مدار األمر على املعىن،

البيان والتبيني، وعلى اإلفهام والتفهم، وكلما كان اللسان أبني كان أمحد،كما أنه كلما كان

وهذا القول 24ن يف الفضل"،واملفهم لك و املتفهم عنك شريكا القلب أشد استبانه كان أمحد،

كما هو واضح يؤسس جلدلية اإلنتاج والتلقي .

وانطالقا من جدلية اإلنتاج والتلقي ،يتحول النص الواحد إىل نصوص متعددة وخمتلفة

لدلك نرى بأن نص الرمضاين يلقى تراكما من املعاين ، ومينح الدالالت؛ بناء على تعدد القراء،

راسة" طني األبدية " دراسة حسب النظريات النقدية احلديثة؛ ألنه نص ثري لكل متلق الفرصة لد

مبعجمه اللفظي، وبكل ما يوحي به كل لفظ، باإلضافة إىل توظيف األسطورة اليت متنح النص

مجالية وشعرية حتفز املتلقي على التأمل والتمعن يف كيفية ربط الرمضاين أحداث دينية بأخرى

ل الذي زاد النص مجالية هو توظيف كل ما حييط به يف الطبيعة؛ وأنت تقرأ له ميتافيزيقية. ..ولع

تكتشف براعته ، إذ أنه حياول استنطاق كل جامد يف هذه الطبيعة اليت ما خلقها اهللا عبثا....

أن العنوان يوحي بشيء له عالقة يكتشف منذ الوهلة األوىل، إن املتلقي لنص الرمضاين،

ولفظ األبدية يرمز اىل فإن لفظ الطني يرمز إىل اإلنسان،لود؛ وكما سبق الذكر؛ باإلنسان واخل

146

الزمن او اخللود، ولعل سر التلقي يكمن يف العنوان الذي اختاره الشاعر ليخدم مضمون أفكاره

اليت ستتحول فيما بعد إىل نص شعري طويل.

وإمنا ملتلق مفرتض، أو مقصود؛ ،وال خيفى على أحد أن أي مبدع او مؤلف ال يكتب لنفسه

حماوال االستعانة بكل ما قد يفيده يف إيصال ما يود إيصاله إىل ولذلك فهو خيتار ألفاظه بعناية،

متلقيه؛ واعتمادا على حضور املتلقي يف ذهن املؤلف يقول اجلاحظ " ال خري يف كالم ال يدل

إليه قصدت، والغرض الذي إليه على معناك، وال يشري إىل مغزاك؛ وإىل العمود الذي

وهذا الكل مل يشري إىل أن كال من املتلقي واملؤلف صنوان ال يفرتقان؛ وذلك أن 25نزعت..."

املتلقي هو الذي يكشف املعىن الذي يقصده املبدع يف نصه.

ونظرا ألمهية املتلقي وحضوره يف ذهن املؤلف، أمات *روالن بارث* املؤلف، ونادى حبياة

بني الكتابة والقراءة -يف نظره-لقي وباحقيته يف إنتاج النص، ويف إعادة كتابته، ألن العالقة املت

ليست عالقة إرسال واستقبال، أو عالقة إنتاج واستهالك، وإمنا هي عالقة تشكالت وفق منطق

خاص؛ هو منطق السنن النصي الذي ال يلزم القراءة باختاذ وجهة معينة، وإمنا يبين مالبسات

داللية تعطيها حق املبادرة واملثابرة، وتسمح هلا باقتحام منطقة اإلنتاج بإعادة ترتيب أنظمة الكتابة

وتشغيلها لصنع معىن النص او أحد معانيه.وإذا كان املؤلف ال ينطلق يف إبداعه من الفراغ، فإن

بعض النظريات املتلقي هو اآلخر ال ينطلق من نقطة الصفر، فال بد له من ان يكون متمكنا من

26النقدية اليت بإمكا�ا مساعدته يف عملية الفهم والتأويل. فعل القراءة وإشكالية التلقي.

إن مهمة املؤلف هي أن يضع هاجسا يف ذهن املتلقي؛ حيث يرتك له فراغات جيب عليه

ل نص بال للنص، وكما يرى *فولفغانغ ايزر* فك -نسبيا -ملؤها حىت يكتمل عنده املعىن احلقيقي

قارئ أو قراءة هو جمرد عالمات متضام بعضها إىل بعض، ولن ترتقي إىل درجة األدب، أن مل

27يباشر القارئ وظيفة القراءة األولية؛ فالتاويلية، فاملتدبرة، ومن هنا يبقى النص مفتوحا.

الطبيعة إىل الرمضاين يف نصه الشعري يتعامل مع األشياء تتعامال ينقلها من وجودها الثابت يف

عامل تدخل فيه ضمن شبكة من العالقات اليت تندرج من خالهلا يف بنية وجودية جديدة،تصبح

فيها عالقتها بالذات الشاعرة عالقة محيمية راسخة تقرتب من احللولية، حبيث تلغي احلدود

ضاين يدرك ولعل املتمعن يف شعر الرم . 28الفاصلة بني الذات واألشياء املشكلة للواقع اخلارجي

متاما ذلك السر الذي جعله يوظف كل ما يف الطبيعية توظيفا يكاد يطغى على القصيدة من أوهلا

معتربا إياها مصدره األول إىل �ايتها. وهو تلك العالقة احلميمية اليت تربط ذاته الشاعرة بالطبيعة،

147

جبا أو ممثال أو معتربة، إال يف اإلهلام واإلبداع. ...لذلك راح يستنطقها سائال أو متعجبا أو مع

أن الكائن الواحد يف الطبيعة قد أخذ عنده أكثر من داللة ومن بعد.. وعلى سبيل املثال توظيفه

للشمس والشجرة اليت هي مرة سبب إخراج آدم من اجلنة، ومرة أخرى هي تلك الشجرة املباركة؛

، اخلفاش رمز اجلنب، اهلدهد وقصة شجرة الزيتون.، باإلضافة إىل القمر والبدر، واألرض والسماء

سيدنا سليمان عليه السالم، البئر والذئب والقميص رمزا لقصة يوسف عليه السالم، واملوت

والظلمات داللة على قصة سيدنا يونس عليه السالم، آدم والتفاحة،....والقائمة طويلة يف جمال

توظيف الطبيعة يف شعر الرمضاين.

ة هي يف أبسط تعبري هلا ؛ هي متثيل للواقع منذ ما قبل امليالد إىل يومنا إن قصيدة طني األبدي

هذا، وأ�ا تصلح أن متثل على خشبة املسرح، كما أنه ميكنها أن تكون رواية، لقد جسد الشاعر

مراحل صراع اإلنسان من أجل اخللود منذ بدء اخللق؛ لذلك فإنه يسعى جاهدا من حتقيق هذا

كل ما عليها فإن وال يبقى إال وجه ربك ذو « الدنيا، مصداقا لقوله تعاىل املسعى املستحيل يف

ولقد حاول الشاعر أن يذكر املتلقي لنصه إىل هذه احلقيقة املطلقة اليت كثريا ما » اجلالل واإلكرام

يتناساها اإلنسان، وهو يلهث يف حتقيق متاع احلياة.

األبدية" ألن الذكرى تنفع املؤمنني، ولذلك ولعل لفظ (ذكرى) هو مفتاح لغز قصيدة "الطني

ابتدأ الشاعر قصيدته بلفظ ذكرى الذي يتناسب مع مضمون القصيدة.

ولقد تبني يل من خالل قراءيت املتأنية للرمضاين، أنه من املمكن إعادة قراء�ا بشكل آخر،

زأ، كما أ�ا تتحرك وفق وهذه القراءة تعتمد على النظر إىل النص الشعري باعتباره كال ال يتج

حدود اللغة اليت استخدمها الشاعر وسياقا�ا النصية، بعيدا عن ا�ازفة بافرتاض دالالت لغوية

29للمفردات ال تستند إىل مرجعية.

ويشكل النص طرفا فعاال يف عملية التدليل، ذلك أن طبيعة النص ال ختتزل إال بالوحدة

نقد اجلديد وال إىل منطق بنية جمردة كما تدعي البنيوية، إن النص نسيج من املثالية، كما ادعى ال

عناصر مغايرة، ومن عالمات خمتلفة، حتيل على أنساق رمزية وثقافية متعددة، وأحيانا متعارضة،

وعلى هذا األساس تتبدى طبيعة النص كشبكة من االقتباسات والتحويالت لنصوص سابقة

30قمع حريتها يف االنتشار.تقاوم كل تفسري أحادي ي

وبناء على استخدام الشاعر الرمضاين للحوار، ولألسطورة، ولالقتباس من النصوص الدينية

ومن قصص األنبياء (آدم، حواء، نوح، داوود، سليمان، يونس، يوسف، موسى، عيسى)، مرمي

اه، وللتساؤل والتأمل.القديسة... تتبدى التعددية الثقافية والرمزية يف نصه بشكل الفت لالنتب

148

إن توظيف الشاعر لكل ما ورد ذكره يفتح الشهية للباحث كي يدرس نصه من منظور دراسات

نقدية حديثة؛ كالسيميائيات، والتفكيكية، والبنيوية، واللسانية، والتأويلية والتداولية، باإلضافة إىل

. نظرية احلجاج والتواصل، كما سبق الذكر يف موضع من هذا املقال

أية قراءة فعالة ينبغي أن ال تقرأ النص يف وحدته وسكونه، بل يف تعدده وجتدر اإلشارة إىل أن

وتوتره، ألن عملية الربط بني األنساق والدالئل املتغايرة للنص تتطلب إنتاج إسرتاتيجيات متعددة

التأويل تتعدد وال من الرتكيبات واإلحاالت والتوازيات، وأمام تعدد هذه العناصر فإن احتماالت

ختضع ألي تراتبية. ألن النص ميثل فضاء ديناميا ألنساق متعددة تعتمد يف داللتها على

اإلسرتاتيجية الفعالة للقارئ، لذلك ينبغي على القراءة أن تأسس فعلها كإنتاج وممارسة وليس

كاستهالك.

قصيدة عبارة عن ملسات عذبة وأنا أقرأ ديوان الشاعر ال أخفيكم سرا بأنين ألفيت هذه ال

يشو�ا حرية ويأس وتشظي لذات الشاعر اليت تعاين من مرارة الواقع، ومن تطلعات اإلنسان إىل

إال أن هذه اهلمسة وإن كانت حزينة وكئيبة فإن فيها -رغم علمه بأن اخللود هللا وحده-اخللود

نفاس، ويالحظ بأنه مدرب على من عمق التعبري اللغوي ما ال تصفه قوافل مجل طويلة تقطع األ

االلتقاط اجليد لكل مظاهر الطبيعة، وقارئ جيد لرتاثه أمته القدمي (ملحمة جلجامش وعشتار).

وميثل ديوان الشاعر باقة من الشعر الوجداين الذي ينساب عذبا ليرتك أثره يف نفسية القارئ،

إىل رسائل أو ساعي بريد، وذلك وما أروع الشعر الصادق الذي يصل إىل القلوب دون احلاجة

أن الشاعر يتقن فن البوح بكل ما يؤرقه يف هذا الواقع املر، لذلك فإن نصه مفعم بغزارة يف املعاين

والرموز الضاجة بالداللة مما جيعلك تعود بذاكرتك املتعبة إىل زمن بعيد، ميثل حضارة العراق

إبداع خيال مقرتن بواقع، وكل ذلك بلغة العريقة، وجيعلك كذلك تتفيأ يف مساحات خضراء من

أنيقة بسيطة وسلسلة جتعلك تعيد حساباتك من جديد يف هذه احلياة.

وإذا جاز لنا أن نصنف الشاعر ضمن عظماء الشعراء القدامى، فإننا سنضعه يف قائمة أدباء

ل مبدع يف أن املهجر، وذلك أنه قد استلهم واستقى مادته من الطبيعة اخلالبة، اليت تساعد ك

ينهل منها ما استطاع إليه سبيال إن رامزا، أو ساردا، أو واصفا، أو ناصحا، وذلك أن كل ما يف

الطبيعة فيه حياة تنبض وتعيش وتعمر مث متوت، إ�ا حقا شبيهة �ذا الكائن العجيب الذي هو

اإلنسان.

ن منذ بدء اخلليقة، فجعل لبعض حاول الشاعر استنطاق الطبيعة ليجسد مراحل حياة اإلنسا

الكائنات احلية أصواتا وبعضها اآلخر مسعا وتارة أخرى نطقا وهكذا، وهي كلها إسقاطات

149

مستعارة من الطبيعة لتمثل حياة اإلنسان، ألن هناك صلة ما بني الشعر واحلياة، فقط أنه ال جيب

غي الشروع يف احلكم على الشعر من أن ال نفهم أن وجود الشعر رهني بوجود احلياة، كما ال ينب

منطلق تعبريه الدقيق على مشكالت احلياة االجتماعية واالقتصادية، وذلك أن خلو النص

الشعري من اإلحاالت اخلارجية قد يفهم من طرف دعاة املنهج االجتماعي على أنه قصور فين

31عية.أو عجز يف إبالغ الواقع للمتلقي أو هو إبطال لوظيفة الشعر االجتما

وأخريا يتبني لنا أن قراءة النص الشعري ال ميكنها يف الواقع أن تدرك أبعاده اجلمالية والفنية إال

بالتقاط وضبط آليات اشتغال اللغة ويف الوقت نفسه استبعاد فرضية استخالص املشاعر الذاتية أو

ة الشاعر وموضوعية الواقع، التجليات الواقعية فيه، ألن اللغة هي موطن التقاء تفاعلي بني ذاتي

حبيث يعرب هذا االلتقاء عن انصهار استثنائي يفضي إىل إنشاء مجالية لغوية وسبيلها يف ذلك هو

التأليف داخل نظام الكلمات وخلق التفاعل بينها، ألن نشاط اللغة يستطيع أن خيلق من خالل

بري آخر إن اللغة خالقة ملعناها نظام الكلمات نظاما جديدا من الرموز يتجاوز التعبري أو بتع

والنشاط اللغوي هو اآللية اليت بواسطتها يتم خلق هذا املعىن عن طريق تذويب املشاعر والعناصر

اخلارجية (الواقع اإلنساين والطبيعة كرمز).

ولقد وظف الشاعر الفلسطيين عز الدين املناصرة األسطورة يف شعره، وهو يقول يف سبيل هذا

األسطورة يف قصائدي على السطح ولكنها تتوزع يف النسيج النصي ... وهذا هو « التوظيف

لذلك قال علي عشري زايد: 32الفارق بيين وبني الرواة حيث استخدمت "عصارة املوروث"،

».السياب ناظم أساطري، أما املناصرة فمبدع أساطري

اإلنسان، وهي بذلك تكشف ترتكز األسطورة على خيال عالقة األسطورة بالعالم االفتراضي:

عن الفكر اإلنساين منذ وجد إىل يومنا هذا؛ لذلك يستعني �ا كثري من املبدعني لربط احلاضر

باملاضي ولتجسيد أدوار الشخصيات إما يف السرد أو على خشبات املسرح، أو يف الشعر، ولقد

مرحلة تكون فيها إرادته قابضة كانت أحالم املثاليني والطوباوبني والبدائيني، أن يصل اإلنسان إىل

على الكون مفككة ألسراره، شارحة لنواميسه، وقد رسم هؤالء صورا ملا ينبغي أن يكون عليه

اإلنسان وملا ينبغي أن يصل إليه علميا واجتماعيا ونفسيا، فخرجت هذه األحالم واألساطري يف

33».شكل أدب غري واقعي

م؟ أم يتجاوز عصر العلم؟ وأمام هذه األسئلة يعتقد ولكن هل حيار األدب يف عصر العل

يتجاوز عصر العلم ويسبقه، ليس احنيازا لألدب ودوره يف «الدكتور مدحت اجليار أن األدب

150

تشكيل مالمح عصر العلم والتكنولوجيا وهذا ليس رغبة يف إنقاص مكانة العلم وتطور أدواته اليت

34».رية متجسدة، وخاصة إلرادة اإلنسانسبقت اخليال واألحالم وجعلت أحالم البش

األدب البديع الذي تطرق ملواجهة اإلنسان واآلهلة من خالل رؤية فكرية «فاألساطري هي من

35».للتاريخ واألساطري مل يفض إىل إنتاج مسرحي كما حدث يف اليونان الحقا

وإىل كل نشاطا�ا احلياتية ومن جهة نظري فإن أسطورة (جلجامش) ترمز إىل احلضارة البابلية

حيث كتب عدد غفري من املكلفني بالكتابة املسمارية على األلواح الطينية فحرروا ونسجوا

نصوصا ال تنسى حافرين مضمو�ا على مادة ال تتلف، وإن تثبيت الفكرة أو املعلومة �ذه الطريقة

ة بدقة الكلمة وإحكام الصيغة وإتقان يعين منحها شكال باتا �ائيا، لذلك اتسمت اآلداب البابلي

تركيب اجلمل على اعتبار أ�ا مقدرة للخلود أكثر منها معدة لالستخدام املباشر، ولقد أهدى

اجلهد األديب البابلي لألجيال الالحقة نصوصا رائعة تشكل مادة وافرة وخصبة للتأليف؛ لذلك

على املتلقني تساؤالته امليتافيزيقية حنو فإن (ملحمة جلجامش) تزور مسارح العراق كثريا لتطرح

36اخللود.

واليوم وقد وصلت «ولوال أمهية األساطري واملالمح يف حياة اإلنسان ملا عاد إليها املبدعون

الثورة العلمية ثورة املعلومات إىل مداها، كيف يستفيد األدب من هذه املعلومات وما اآلثار املرتتبة

37».على ذلك؟

أن هناك تداخال شامال بني كل األجناس األدبية والفنون يف عصر التكنولوجيا، فقد الواضح

بالنص «ظهرت جتلياته فيما مسي برواية اخليال العلمي، مث فيما جنده من إبداعات تسمى

، وهي وسيط بني جمموعة من األنواع األدبية مثل احلدث يف تداخل الشعري بالقصصي »األديب

تداخل األجناس عرب (علم الوراثة) و(اجلينات) الذي أحدث أثرا يف ختليق والدرامي، ومثله

خملوقات من عدة أجناس، كما حيدث يف احليوانات واملزروعات.

وأعتقد أن ال أحد ال يدرك 38وهذا التداخل هو إحدى جتليات حدود الكائنات ومتازجها،

الثقافية، وسعيها كلها إىل حتقيق حلم مدى تداخل النظم السياسية واالجتماعية واالقتصادية و

وحدة األرض يف مواجهة الكواكب األخرى، وهي عودة إىل احللم املثال والطوباوي عند

39األخالقيني، بل عند صانعي األسطورة.

لقد أوصلنا عصر التكنولوجيا إىل تطور مذهل يف الفكر واإليديولوجيا، ويف النظر إىل اإلنسان

من حولنا، فقد شهدت مناهج العلوم طفرة بسبب انفجار ثورة املعلومات وا�تمع والكون

151

ووسائل املعرفة، وكل ما حدث وجتسد على أرض الواقع بفضل اخليال اإلنساين حىت التكنولوجي،

فهي من اخليال العلمي النابع من الفكر اإلنساين الذي يسعى دائما إىل توحيد الكون، وتيسري

ت احلياة.سبل العيش وكل جماال

إن ما متده التكنولوجيا لألدب هو أن تصل املبدع بكل أقرانه يف القرية الكونية، فيستفيد من

أفكارهم وتوجها�م، أو يصحح معتقداته جتاه اآلخر، وإذا كانت التكنولوجيا تسهم يف تطوير

ى حريته يف "اخللق" العلوم التجريبية عن طريق اآللة، فإن األدب يرد لإلنسان اعتباره باحلفاظ عل

و"اإلبداع" وخصوصيته يف الفكر واإلحساس، ألن األدب من شأنه أن خيلق توازنا بني اإلنسان

والتقدم العلمي.

فالعلم حياول أن جيد لظواهر احلياة تفسريا من خالل عمليات فيزيائية وكيميائية، وهو عكس

أديانه وأحالمه الطوباوية والفلسفية اليت كثريا ما كان حياول اإلنسان تغيريه من قبل عرب أساطريه و

ما مسعنا عنها أو صادفتنا يف حبوثنا عن اجلمهوريات (مجهورية أفالطون)، الفاضليات (املدينة

الفاضلة)، ورحالت اخليال (السندباد البحري)، (ابن بطوطة)، أو رحالت اخليال إىل العامل اآلخر

واآلهلة...

هو امتداد لألسطورة عرب التاريخ، فقد كان خياال علميا جتسد على أرض إن العامل االفرتاضي

الواقع ليدل على فكر اإلنسان اخلالق املبدع، حيث أصبحت األسطورة أو اخلرافة وسيلة من

وسائل تطوير اإلنسان يف ا�تمع والعلم يف آن واحد، أل�ا سبقت كثريا من االخرتاعات

دليل على ذلك أفالم اخليال العلمي اليت بثت على شاشات التلفاز واالكتشافات العلمية، وال

قدميا.

فاألسطورة بكل بساطة متثل خياال علميا، وأدبا وتارخيا يف األدب العريب ليبدأ من حكايات

ألف ليلة وليلة، واحلكايات اخلرافية حتاول أن تتطرق للمجهول يف الزمان واملكان، حماولة اإلمساك

وهو شأن التكنولوجيا اليوم.به

وعلى العموم فاألسطورة هي مصدر كل مبدع، ومصدر كل فنان، ومصدر التنبؤ العلمي،

ومصدر كل خمرج أو ممثل، إ�ا متد اإلنسان بفكر مستقبلي وما عليه إال أن يكون ملحا وراغبا،

ن اخليالية األدبية والعلمية، أو موهوبا من أجل استثمارها على اعتبار أن األسطورة فن من الفنو

فإ�ا ختدم احلياة والواقع، وتساعد اإلنسان على اإلبداع واالبتكار، فالشاعر يتواصل مع األسطورة

باإلفادة من روحها وعملها ودالال�ا، ألن عالقة األسطورة باملكان وبالشعر تبدو يف كو�ا فضاء

على بعدها اجلمايل أو صور�ا الرمزية، بل إضافيا للتأمالت الشعرية، وهي يف النص ال تقتصر

152

تتجاوز ذلك إىل أ�ا اختالق للمكان املفقود يف الواقع، واسرتجاع داخلي ألمكنة االنتماء،

فاملبدع عندما يستحضر أو يتذكر األساطري إمنا يتجاوزها إلعادة إنتاج ما يوازيها يف الداخل،

40تعادة الذاكرة احململة باألماكن املفقودة.فهي بوابته املفتوحة على تأمالت اليقظة واس

وميكن للمبدع أن يستخدم األسطورة كاستعارات أو كنايات أو مناذج عليها ذات مدلوالت

رمزية لتعرب عن املاضي أو عن احلضارة أو عن التاريخ، أو من صراع اخلري والشر (قابيل وهابيل)،

غيبية، ويفسر إحسان عباس استخدام األسطورة يف أو التفكري امليتافيزيقي، أو االستعانة بقوى

الشعر العريب بأنه تقليد للشعر الغريب الذي اختذ األسطورة سداه وحلمته، ملا لألسطورة من جاذبية

تصل اإلنسان والطبيعة وحركة الفصول وتناوب احلصص واجلذب فهي تكفل نوعا من الشعور

ة من القوى املتصارعة والتنويع يف أشكال الرتكيب باالستمرار وتفتح آفاقها لقبول ألوان عميق

41والبناء.

وإذا كانت األسطورة متثل أداة تقليدية ترمز إىل نسق مشرتك من األطر املرجعية والدالالت

�موعة من األفراد يتقامسون فضاء رمزيا، فإن التكنولوجيا الرقمية متثل أدوات حمورية يف فاعلية

42 جلماعية من ناحية، والدفع بظهور فضاءات إنتاج مجاعية جديدة.انتقال الذاكرة ا

هوامش البحث:

.39-40، ص1976: مقدمة يف نظرية األدب، عبد املنعم تليمة، دار الثقافة، القاهرة، د.ط، 1 .576، ص4حلديث، القاهرة، م: لسان العرب، ابن منظور، مادة (سطر)، دار ا2 .15: سورة القلم، اآلية 3، 2007، 3: مغامرة العقل األوىل، فرانس السواح، دار (دراسة يف األسطورة)، عالء للنشر والتوزيع، سوريا، ط4

.12ص .10، ص1981: األساطري وعلم األجناس، قيس الثوري، املوصل، جامع املوصل، العراق، 5 . 18، ص1981ت عند العرب، حممد عبد املقيد خان، الدار احلديثة للطباعة، بريوت، : األساطري واخلرافا6 .19األسطورة يف الشعر العريب، أمن داود، مكتبة عني مشس، القاهرة، د.ط، د.ت، ص: 7، 1988: دراسات يف فلسفة التاريخ، هاشم املالح وآخرون، املوصل، دار الكتب للطباعة والنشر، العراق، 8

.84ص، 2010، 1: أشهر األساطري واملالمح األدبية يف الرتاث اإلنساين، أمحد سويلم، دار العامل العريب، القاهرة، ط9

14ص

153

فلسطني)، جملة الباحث، جامعة –: جتليات األسطورة من شعر عز الدين املناصرة، د. بنان صالح الدين (ج 10

.95، ص2011، 08األغواط، اجلزائر، ع، 5عند أرسطو، جملة البالغة وحتليل اخلطاب، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، املغرب، ع: مصطلح احملاكاة 11

.153، ص2014، 2010، 1: أشهر األساطري واملالحم األدبية يف الرتاث اإلنساين، أمحد سويلد، دار العامل العريب، القاهرة، ط12

.55ص .25، ص2009، 1بريوت، لبنان، ط: سرية املسرح (أعالم وأعمال)، روجيه عساف، دار اآلداب، 13 : نفسه، ص ن14 .59-60: أشهر األساطري واملالحم، أمحد سويلم، ص15 : نفسه، ص ن.16 52، ص1978: جوليا كريستيفا :النص املغلق ضمن مقاالت سيميائية سوى/باريس 17 2011 1ائرطمنشورات االختالف. اجلز : حسني مخري. سرديات النقد، يف حتليل اخلطاب النقدي املعاصر.18

113ص 86صفحة 2008.: بول ريكور.ترمجة سعيد الغامني. املركز الثقايف العريب.املغرب.ط19 . 49ص2011.1. الدليل السيميولوجي .فيصل األمحر. دار األملعية للنشر. قسنطينة. اجلزائر. ط: 20 11ص 1 /2007 .طد. أمحد أ�م دار اآلفاق العربية.القاهرة دراسة. : التناص يف شعر الواد.21 املرجع نفسه ص ن. : 22 26املرجع السابق ص : 23 1ج 1البيان والتبيني. لدى اجلاحظ. تح وشرح عبد السالم هارون،مكتبة اخلاجني، القاهرة، ج: 24

11، ص 1968.3ط 116ص 1البيان والتبني، اجلاحظ.مرجع سابق ج: 25 53/54ص/1998/ .10د. حممد خرماش. جملة عالمات .ع: 26

: التلقي والتأويل. من النموذج النصي إىل النموذج التفاعلي للقراءة. د.حممد اليهاجي، د.حسن لشقر، 27

. .123ص .2014.1 د.مصطفى بوخبزة: مطبعة أميمة. فاس. املغرب.ط .23ص .1987 1يف الشعرية. كمال أبو ديب. مؤسسة األحباث العربية.بريوت ط. : 28 105، ص2009، 1د العضييب، النص وإشكالية املعىن، دار العربية للعلوم ناشرون، بريوت، ط: عبد اهللا حمم29 .39: حممد بوعزة، إسرتاتيجية التأويل من النصية إىل التفكيكية، منشورات االختالف، اجلزائر، ص30 .173: مصطفى مشيعة، القراءة التأويلية، املرجع السابق، ص31 : نفسه.32

154

لعريب، قراءة يف نصوص دالة، د. مدحت اجليار، اهليئة املصرية العامة للكتاب، القاهرة، : السرد الروائي ا33

.67، ص2008 : نفسه، ص ن.34 26: املسرح أعالم وأعمال، روجيه عساف، ص35 .66-67: سرية املسرح، روجيه عساف، ص36 .67: السرد الروائي العريب، مدحت اجليار، ص37 .68: نفسه، ص38 : نفسه، ص ن.39، 1بنية القصيدة يف شعر حممود درويش، مناصرة علي، املؤسسة العربية للدراسات والنشر، بريوت، ط :40

106، ص2001 : نفسه.41 : نفسه.42